هل تستعصي الحماية على التغيير في عالم متغير؟ 70 عامًا على اتفاقيات جنيف

كلمة الرئيس في معهد الدراسات العليا الدولية والإنمائية في جنيف

13 آذار/مارس 2019
هل تستعصي الحماية على التغيير في عالم متغير؟ 70 عامًا على اتفاقيات جنيف
مبانٍ مدمرة في مدينة الموصل العراقية. CC BY-NC-ND/ ICRC/ Clare Cameron

إنه لمن دواعي سروري إلقاء كلمة في معهد الدراسات العليا والتحاور مع الجمهور في جنيف. وليس هناك موضوع أقرب إلى لب عمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر من المناقشات التي تدور الليلة. إن التفويض الموكل إلينا لمباشرة أعمال الحماية وتخفيف المعاناة في أوقات الحرب مستمد عمليًا من اتفاقيات جنيف لعام 1949، رغم أن تاريخنا يمتد لأبعد من ذلك.

هذه المناقشة بالنسبة إليَّ لا تتمحور حول الذكرى السنوية أو النقاشات المتعلقة بالصياغة القانونية، لكنها تنصب على حماية الناس من أسوأ حروب تستعر في عالم اليوم. وتنصب على القوانين التي تشدد على أنه ما دامت الحروب أمر واقع لا محال، فمن المحتم وضع حد للمعاناة أيضًا.

مر سبعون عامًا على المؤتمر الدبلوماسي الذي دعت إليه سويسرا في هذه المدينة. افتتح المؤتمر أعماله في 21 نيسان/أبريل 1949 في قصر المجلس العام القديم، الذي تحول الآن إلى مبنى "يوني-دوفور". والتقى فيه ممثلون من جميع دول العالم تقريبًا في ذلك الوقت، وشاركت اللجنة الدولية بصفتها خبيرًا.

وكانت فظائع الحرب العالمية الثانية ما تزال حاضرة في أذهان المشاركين. دفعت ساحات القتال والهولوكوست الإنسانية إلى حافة الهوية وكشفت الثغرة الفاضحة في الحماية القانونية للمدنيين.

أبدت الدول تصميمًا قويًا على ألا تدع الفرصة لتكرار هذا الدمار، واعتُمدت تعهدات ملزمة باحترام المدنيين - الرجال العاديون والنساء والأطفال - في القوانين الدولية بطريقة شاملة.

اتفق العالم على أنه حتى في النزاعات المسلحة تظل هناك قيود مفروضة على ما نستطيع - كأمم ومجتمعات وأخوة وأخوات - فعله تجاه بعضنا بعضًا. وكان هذا إيذانًا بدخول مثل هذا المفهوم القوي إلى القانون التعاهدي.

كانت الروح الإنسانية والتصميم على وضع حد للمعاناة من العنفوان بحيث لم تستغرق المفاوضات غير أربعة أشهر. وهذا أمر بعيد عن التصور في عالم اليوم بنظامه متعدد الأطراف، لكن يبين لنا أيضًا ما تستطيع الدول إنجازه عندما تتخذ إجراءات مسؤولة وتتحلى بالشجاعة لإعلاء المبادئ.

كان هذا النجاح بالطبع وليد المشاركة المهنية طويل الأجل، التي سمحت للقائمين على صياغة النص والتفاوض بالتوصل إلى اتفاق قانوني ربط بين التاريخ الحديث والخبرات، واستطاع من خلال ذلك تجاوز نطاق الزمان والمكان.

لكن العملية لم تمر دون صعوبات. فقد أقرت بالمعضلات التي تضمنت الحقوق المشروعة للدول في الأمن، لذلك روعي عند وضع القانون الدولي الإنساني التوازن بين الضرورة العسكرية والشواغل الإنسانية بغرض تحقيق الحماية المثلى للمتضررين من النزاعات.

وتعد اتفاقيات جنيف الأربع اليوم من بين قلة قليلة من المعاهدات الدولية التي تحظى بتصديق كافة دول العالم، خاصة أنها تعكس القيم العالمية للسلوكيات الأخلاقية، وهي أمور تجعلها أكثر من مجرد قانون.

ولئن كانت اتفاقيات جنيف قد أصبحت مرادفة لمدينة جنيف، إلا أنها وضعت للتعامل مع الفظاعات التي تحدث على خطوط المواجهة الحربية.

ولا يمكن حصر القانون الدولي الإنساني في كلمات مسطورة في نصوص قانونية براقة. بل إن له قوة تتبدى في عالمنا في ساحات القتال بسورية وأفغانستان والعراق وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى.
لقد وضع عسكريون وعاملون في المجال الإنساني هذه القوانين والمبادئ لاستخدامها بشكل عملي وبراغماتي في الميدان.

في شباط/فبراير، زرت الموصل التي كانت مسرحًا لمعركة كبرى في الحرب في العراق، معركة ضارية دار رحاها من شارع لشارع ومن بيت لبيت.

لم يتبق من المدينة إلا القشور، وقد صدمتني بصدق رؤية كل هذا الدمار. تحدثت إلى العائلات وعرفت ما كبدته الحرب لها من خسائر ضخمة ومؤلمة فما يزال مكان وجود الكثير من المفقودين مجهولاً. قابلت العديد من الأمهات اللائي يبحثن يائسات عن أبنائهن وأزواجهن، في غمرة الخوف من موتهم أو تعرضهم للاحتجاز. بينما ما يزال الملايين نازحين داخل العراق وفي البلدان المجاورة.

الموصل، مثل حلب أو تعز أو مايدوغوري، رمز يجسد المعاناة الهائلة التي تحدث عند انتهاك القانون الدولي الإنساني. ولا يتوقف الأمر على الآثار المباشرة من قتل وإصابات، بل يفقد الأطفال سنوات من التعليم، ويفقد البالغون سبل كسب العيش ووسائل البقاء. ويعاني آخرون آثارًا نفسية. وفي هذا المجتمع المدمر، تتدافع تحت الضلوع موجات السخط ومخاطر الرغبة في الانتقام.

عندما يُنتهك القانون الدولي الإنساني، فإن هذه الأعمال تجلب معها خطر تأجيج دوامة متعاقبة من العنف.

العنف يمزق الأرواح بطرق لا تحصى، ويغذي النبذ والتفرقة. بعض الناس يعانون النبذ المجتمعي، كالناجين من العنف الجنسي والأشخاص ذوي الإعاقات. يتعرضون للتجاهل ويغيبون عن الأنظار وتتلاشى أصواتهم، ويُستبعدون من الانتفاع بالخدمات الأساسية والحياة المجتمعية والتعليم والعمل.

ويتعرض آخرون للإقصاء عن عمد باسم القصاص؛ كالمتهمين بارتكاب جرائم إرهاب أو المحتجزين بدون إجراءات قضائية أو الموصومين بالانتماء إلى الأعداء بمن فيهم عائلات المقاتلين الأجانب.

هنالك ديناميات بالغة الصعوبة تتحتم الاستجابة لها، وإننا نرى العالم الآن يكافح لإيجاد نوع من التوازن بين الضرورات الأمنية للدول، وتحقيق العدالة للضحايا والناجين، والالتزامات القانونية تجاه المرتبطين بالأعداء، والاحتياجات الإنسانية.

بيد أن هنالك أيضًا معضلات يمكن أن تضيف إليها الأطر القوية للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنساني قيمة عظيمة. لقد شُيدت هذه البنى، تمامًا مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر، للتعامل مع مثل هذه الظروف.

لا يصدر القانون الدولي الإنساني أحكامًا على دوافع القتال. وينص على أن كل شخص غير منخرط أو لم يعد يشارك بشكل نشط في الأعمال العدائية مشمول بالحماية ويجب معاملته بإنسانية. ويجب ألا تُنزع الإنسانية أو الحق في الحماية عن الجميع، بمن فيهم الأعداء.

  • ماذا يعني هذا في الواقع العملي؟
  • لا يعرض أي إنسان للتعذيب أو غيره من أشكال المعاملة السيئة.
  • يحظر الاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي.
  • يحصل الجرحى والمرضى على الرعاية الطبية المطلوبة.
  • يجب عدم مهاجمة المستشفيات والطواقم الطبية.
  • يجب أن يعامل المحتجزون معاملة إنسانية.
  • يحق لأفراد العائلات الحق في معرفة مصير ذويهم المفقودين.
  • يجب أن تعامل جثث الموتى معاملة كريمة.

عندما يُحترم القانون الدولي الإنساني، ينخفض تعرض المدنيين للأذى انخفاضًا جذريًا. إننا نرى صورًا يومية لتطبيق القانون الدولي الإنساني في الميدان: عند السماح لشخص مصاب بعبور نقطة تفتيش، عندما يتلقى طفل على خطوط المواجهة مواد غذائية ومساعدات إنسانية أخرى، عندما تتحسن الظروف المعيشية للمحتجزين أو عندما تتاح لهم فرص الاتصال بعائلاتهم.

إن الاتفاقيات المبرمة في عام 1949 كانت المعاهدات الأولى التي تحظر الاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي في النزاعات المسلحة. في عام 1949، أعلنت الدول بوضوح ودون رجعة عدم وجود مكان للاعتقاد باستحالة تجنب العنف الجنسي في الحرب.

واليوم يعامل الاغتصاب وغيره من أشكال عنف الجنسي باعتبارها جرائم حرب في النزاعات الجنسية كافة.

إننا ندرك بأسى أن هذه الخطوة لم توقف ارتكاب جرائم العنف الجنسي. وما تزال هذه الأفعال واقعًا وحشيًا وغير مقبول يعاني منه النساء والرجال والأطفال في نزاعات مسلحة عديدة. لكن في الوقت ذاته، لا تعني الانتهاكات المستمرة للقانون عدم كفايته للغرض المطلوب، بل تشير بالأحرى إلى عدم كفاية الجهود المبذولة لكفالة احترام هذا القانون. إننا نستطيع – ويتحتم علينا – بذل المزيد.

في الحقيقة، تشهد نزاعات حول العالم انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني: تتبدى أمثلة مأساوية على ذلك في اليمن والصومال ونيجيريا وأوكرانيا ومناطق أخرى، ما يدلل بشكل يومي على الفشل الذريع في حماية السكان.

وقد تقود هذه الانتهاكات إلى الاعتقاد بأن المبادئ لا تُحترم أبدًا أو أنها غير مجدية في هذا المضمار. لكن يجانب الصواب - بل ومن الخطير - الاعتقاد بأن القانون الدولي الإنساني دائمًا ما يكون عرضة للانتهاك وبالتالي غير ذي نفع.

إن تركيز الاهتمام فقط على الانتهاكات بحق القانون يخاطر بنزع الشرعية عن القانون بمرور الوقت، ويتجاهل مئات وآلاف المواقف التي حظي القانون فيها بالاحترام عمليًا: حيث لم تتعرض المستشفيات وشبكات المياه للهجوم، وحظي المدنيون بالحماية، وعومل المحتجزون معاملة إنسانية.

إن التحدي الجماعي الذي نواجهه اليوم هو إيجاد طرق لضمان زيادة احترام القانون في ضوء الديناميات المتغيرة للنزاعات.

صحيح بطبيعة الحال أن الحروب في 2019 تغيرت تغيرًا كبيرًا عما كانت عليه في الحرب العالمية الثانية. وندرك جميعًا أن النزاعات المسلحة الدولية أصبحت أقل بينما تضاعفت النزاعات غير الدولية.

أصبحت النزاعات اليوم أيضًا أعسر على الحل. استمرت الحرب العالمية الثانية ست سنوات، بينما استمر الكثير من النزاعات المعاصرة لسنوات طويلة أو عقود وألقت بظلال قاتمة على أجيال من السكان.

تدور رحى المعارك في مناطق مكتظة بالسكان، ما يهدد أرواح الكثير من المدنيين ويدمر البنية التحتية الحيوية. ونرى في حروب المدن طويلة الأمد تزايدًا هائلاً في أعداد المتضررين لفترات طويلة وما يترتب على ذلك من احتياجات عميقة: من الطعام والمياه والمأوى إلى خدمات الرعاية الصحية والفرص الاقتصادية، والحاجة إلى الدعم النفسي والاجتماعي.

شهد المشهد العالمي للنزاعات تغيرات أيضًا. يتقاتل الآن طيف واسع من الجيوش والقوات الخاصة والجماعات المسلحة والشركات الأمنية والعصابات الإجرامية، إما بشكل مباشر أو بالوكالة، علنًا أو سرًا. وترصد أبحاث اللجنة الدولية للصليب الأحمر ظهور جماعات مسلحة في السنوات الست الأخيرة أكثر مما كان عليه الوضع في العقود الست السابقة.

تتحدث اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى جميع الأطراف في النزاعات وتسعى جاهدة إلى التحاور مع طائفة متزايدة التعقيد من الجماعات المسلحة غير التابعة للدول. حيث نتواصل حاليًا مع 200 جماعة تقريبًا حول العالم، تربطها صلة ما بعملياتنا الميدانية أو الشواغل الإنسانية التي تهما، وقد اكتشفنا أن هياكل هذه الجماعات تتطلب منا اتباع نُهج جديدة.

تُظهر أبحاثنا أن الجماعات اللامركزية، خصوصًا الجماعات غير التابعة للدول، تخضع غالبًا لهياكل قيادية، لكن تتأثر أيضًا بعوامل أخرى كثيرة؛ مجتمعية وسياسية وروحية. لذا نحتاج إلى فعل المزيد لممارسة تأثير على هذه الشبكات، بما فيه على الصعيد غير الرسمي.

يتحتم على اللجنة الدولية للصليب الأحمر تشجيع الجماعات على الإقرار بأن السلوكيات التي تستهين بالقانون تخالف مُثُلها الخاصة: "هذه ليست حقيقتي".

يتزايد انخراط الشركاء والحلفاء في الحروب اليوم، وهؤلاء أطراف خارج ساحات النزاع. ونعرف من واقع تجربتنا المعاصرة ما يمكن أن يؤدي إلى هذا الوضع من تمييع للمسؤولية وانفراط تسلسل القيادة وخروج تدفق الأسلحة عن السيطرة.

وفي ظل الاتجاه المتزايد نحو خوض الحروب في إطار تحالفات وشراكات، بات من الملِح على الدول النظر في الطرق التي يمكن من خلالها التأثير على شركائها وضبط وتيرة الدعم الذي تقدمه لضمان حماية أرواح المدنيين بشكل أفضل.

ومع انخراط الدول في أنشطة مكافحة الإرهاب الجديدة، من الضروري ألا تتعدى إجراءاتها على الأعمال الحيوية للمنظمات الإنسانية التي لا ترمي إلا إلى مساعدة ضحايا النزاعات المسلحة والعنف.

إن طبيعة النزاعات تتطور، وبالمثل لا يقف القانون الدولي الإنساني جامدًا أمام هذه التغيرات. فقد عاينت اللجنة الدولية للصليب الأحمر منذ نشوئها المعاناة التي تسببها الأسلحة وبعض التكتيكات في الحروب، وسعت إلى الحد من التجاوزات المفرطة.

ووجهت نداءً عامًا لمناهضة استخدام الأسلحة الكيميائية في الحرب العالمية الثانية، واستخدام الأسلحة النووية بعد هيروشيما وناغازاكي. وعملت على توسيع نطاق الحماية تحت مظلة القانون الدولي الإنساني من المقاتلين إلى المدنيين من خلال اتفاقية جنيف الرابعة. لقد كان تضمين المادة الثالثة المشتركة بشأن النزاعات المسلحة غير الدولية استشرافًا بطريقة ما للتحول الضخم في مثل هذا النوع من النزاعات، مع إدخال المزيد من آليات الحماية هذه في البروتوكول الإضافي الثاني.

ظهرت في ساحات القتال اليوم بعض التطورات الحافلة بالتحديات الخاصة:

اختلاط الأطراف المسلحة والمدنيين وتراوح هوية الأفراد من مسلحين في الليل إلى مدنيين في النهار.

امتزاج أشكال مختلفة من العنف في ساحات القتال التي توغل ملامحها في الغموض شيئًا فشيئًا، مع ترافق استخدام القوة العسكرية والعنف الإجرامي وحوادث العنف بين المجتمعات المحلية في الساحة نفسها.

تلاشي الخطوط الفاصلة بين النزاعات المسلحة الدولية والداخلية، أو بين الأشكال المادية والافتراضية للعنف، أو بين المشاركين في الأعمال العدائية وغير المشاركين فيها.

تصاعد الحروب غير المتماثلة لتهيمن على بيئات النزاع.

ذوبان الفوارق بين الأسلحة والسلع ذات الاستخدام المزدوج، وبين الأنشطة العسكرية والمدنية.

تجذر الإرهاب ومكافحة الإرهاب في ديناميات النزاع.

تزايد استغلال العمل الإنساني لتحقيق أغراض سياسية.

تجريم العمل الإنساني بزعم تقديمه دعمًا استراتيجيًا للعدو.

يعني هذا تنامي صعوبة النظر إلى القانون الدولي الإنساني بمعزل عن العوامل الأخرى، ويدفعنا أيضًا إلى وضع المصادر القانونية الأخرى في الاعتبار عند العمل في بيئة تتسم بالتعقيد، مثل قانون حقوق الإنسان والأطر القانونية الوطنية والإقليمية، والقوانين غير الملزمة، والتوجيهات المتعلقة بالسياسات.

نعاين اليوم أيضًا تطورًا تكنولوجيًا متسارعًا يخلق خطوط مواجهة جديدة في الفضاء السيبراني وأساليب جديدة للقتال، مثل الأسلحة ذاتية التشغيل وتكنولوجيا التحكم عن بُعد. وتشعر اللجنة الدولية بقلق بالغ إزاء الخسائر البشرية المحتملة للعمليات السيبرانية، وبناءً عليه تبذل ما في وسعها لتوضيح أهمية المفاهيم الأساسية للقانون الدولي الإنساني في ضوء هذه التطورات.

يحظر القانون الدولي الإنساني بوضوح الهجمات السيبرانية ضد الأعيان المدنية، كما يحظر الهجمات العشوائية وغير المتناسبة. لكن في الفضاء السيبراني الذي يعتبر مزدوج الاستخدام تمامًا، ما الذي تعنيه هذه القواعد؟ كيف نحدد الجهات التي تقف وراء الهجمات في الفضاء السيبراني؟ ما الذي يشعل فتيل النزاع؟ تُبرز هذه العوامل الحاجة إلى قواعد أكثر ملاءمة لهذا الوضع لحماية المدنيين من خطوط المواجهة التي ستشهدها النزاعات في المستقبل.

سبعون عامًا مضت، أصبحت فيها اتفاقيات جنيف أكثر من مجرد إرث، أو شيء نفخر به ونحتفل بذكراه. تحققت إنجازات كثيرة منذ عام 1949 في ما يتعلق بنشر المعرفة بالقانون، وضمان تنفيذه وإدماجه في العقيدة العسكرية والتعليم والتدريب وآليات العقوبات، ومنع انتهاكه.

لكن ما زلنا بحاجة إلى بذل المزيد، وهذه هو ما يجاهد موظفو اللجنة الدولية للصليب الأحمر لتحقيقه يوميًا على مستوى العالم، في الوقت الذي يشهدون فيه محنة الأطفال والنساء والأطفال الذين حُرموا من المعاملة الإنسانية وامتُهنت كرامتهم.

ربما كان وضعنا سيصبح أسوأ مما عليه بدون الاتفاقيات، فما تزال في عامها السبعين ملائمة للغرض الذي صيغت من أجله في نواحٍ عدة، لكنها تحتاج إلى دعم أفضل، ومزيد من المناصرين الأشداء، وروح إبداعية ترسم طرقًا جديدة للمضي قدمًا في سبيل تحسين حماية السكان عبر القانون في هذا العالم الجديد.

لقد وُضعت الاتفاقيات باسم الإنسانية من أجلنا جميعًا. وفي حين أن مسؤولية تنفيذ القانون تقع أولاً وأخيرًا على عاتق الدول والدول المتحاربة، فإن مراقبة تنفيذ الاتفاقيات تعتبر مسؤولية جماعية أيضًا.

وتدعو اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بمناسبة هذه الذكرى السنوية، الدول والأطراف غير التابعة للدول إلى احترام القانون الدولي الإنساني وتنفيذه وضمان احترامه عالميًا وبشكل قاطع.

لكن الدعوات لا تكفي. إن الحاجة الأكثر إلحاحًا الآن والتي تحتل محور عمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر على خطوط المواجهة في الحروب المعاصرة هي: القدرة على بناء علاقات أعمق ثقةً بين الدول المتحاربة بحيث تُستعاد مساحة التفاهم ويعاد بناؤها للتوافق على تحسين السلوك.

إن الدفاع المستميت من الجمهور عن هذه القواعد العملية عامل حاسم أيضًا. فكما نعلم جميعًا كم يسهل الإرباك وصرف الأنظار عن المعاناة المتواصلة فصولها حول العالم.

في آخر استبيان أجرته اللجنة الدولية للصليب الأحمر على الجمهور حول موقفه من القانون الدولي الإنساني، وجدنا أن أكثر من ثلثي المستطلعة آراؤهم يعتقدون أن من المنطقي فرض قيود على الحرب والعنف. لكننا وجدنا أن الناس أصبحوا أكثر قبولاً لفكرة موت المدنيين كقدر لا مناص منه في الحرب. إننا نحتاج أن يتقدم الصفوف مناصرون يدافعون عن الإنسانية على جميع المستويات.

نحتاج إلى دعم من الأفراد والمنظمات للمهمة الإنسانية من خلال المهارة والمعرفة، والموارد والأصوات المؤيدة. ويمكن أن يقدم الطلاب والمجتمع العلمي مساهمة عظيمة في تعزيز احترام القانون الدولي الإنساني. نحتاج إلى إجراء أبحاث متقدمة يسترشد بها العمل والدبلوماسية الإنسانيان القائمان على الأدلة.

نحتاج إلى علماء لمساعدتنا على وضع الابتكارات في خدمة الإنسانية، ومواجهة الوسائل والطرق الحربية الجديدة التي تقوض الحماية المكرسة في اتفاقيات جنيف.

ومن هذا المنظور، فإن من الإيجابي أن نرى حضورًا كبيرًا منكم هنا اليوم، أن نرى مشاركة أكاديمية قوية في العديد من الجامعات حول العالم، ومشاركة الكثير من الطلاب والباحثين في الجهود المتعلقة بالقانون الدولي الإنساني.

ولنتذكر أن روح الاتفاقيات - وهي إعلاء شأن الكرامة الإنسانية حتى في معمعة الحرب - ما تزال مهمة الآن كما كانت من قبل. لنتذكر أن الاتفاقيات بمثابة قانون - لكنها تسمو فوق القانون بطريقة ما - حيث لا تتوقف مطالبتها عند الأمور القانونية، بل تتجاوزها إلى المطالبة بالحق والعدل. ولنبذل جميعًا كل ما بوسعنا لضمان أن تسود هذه الروح.